17‏/6‏/2010

مرغم لا مغرم


منذ صباه وهو يحلم باليوم الذي يصبح فيه كبيرا ذو مكانة علمية عالية، لم يكن همه الراتب أو الدخل المالي،لم يكن واعيا بعد، لذا سخر كل طاقاته من أجل العلم، والعلم فقط، سار في طريقه مقتحما كل العقبات التي كانت تعترضه، مزيحا كل الحواجز من أجل النجاح. كان ينجح السنة بعد السنة بميزة تشرفه وتشرف أبويه.


لم يرغب أن ينخرط في أي عمل يلهيه عن طلب العلم والدراسة حتى ينال الشهادة العلمية التي ليس بعدها شهادة..

وكم كانت فرحته كبيرة حين حاز على شهادة الدكتوراه بكفاءة وجدارة. وبقي حلمه يرافقه، العلم ليس شهادة، العلم أكبر من أن يختصر في ورقة صغيرة يبصم عليها كبير. إنه يحيى بالعلم وإن انقطع عنه تلاشى وانقضى، لذا شق طريقه والتمس كل سبيل يربطه به ولا يبعده عنه .

كان يمر عبر شوارع العاصمة الرئيسية فيرى مجموعة هنا بزي أخضر يحذوهم الأمل في غد أفضل، وأخرى بزي أسود ملأ الهم و اليأس حياتهم، وأخرى بزي أحمر مستعدون للموت من أجل تحقيق طلباتهم، ولا فتة تجمعهم (الأطر العليا المعطلة). كانت تشمئز نفسه، ويقشعر جسده ويستنكر ما يفعلون من ضرر بالمصلحة العامة، و ما يفعل بهم من طرف قوات حفظ الأمن التي أصبحت بالنسبة لهم منبع الخوف ومبعثه. ما لهؤلاء كيف تسمح لهم أنفسهم أن يعرضوا كرامتهم لهذه الإهانات، فليحترموا ما حوت عقولهم ووعت رؤوسهم ولا يتركون لغيرهم أن يجهزوا عليها بضربات قاضية. أنا مثلهم حاصل على شهادة عليا ولكني لن أسلك هذا الطريق المهين، أنا سأجد لي عملا أحافظ فيه على علمي الذي أفنيت عليه زهرة عمري، لن أعمل في غير تخصصي الذي أبرع فيه، وهذا لن أجده إلا في جامعة علمية. راح يقدم الطلب تلو الطلب حتى وجد من يرد عليه بالإيجاب.

فرحة لا تعادلها فرحة ، لقد خطى خطوة لأن يصبح أستاذا جامعيا يستطيع أن يصرف علمه و يغنيه بمزيد من البحث والمدارسة والمذاكرة . هي فرصة للحفاظ على علمه، وليقنع نفسه أنه أحسن اختيار الطريق الصحيح ليس كهؤلاء الذين يجوبون شوارع العاصمة. مرت السنة تلو السنة تلو السنة وهو يعمل دون أي مقابل إلا ما كان يدخره الله له في صحيفته التي يلقى بها غدا ربه.

يركب القطار للذهاب إلى العمل من جيب وليه، يا للفرحة!، يقتني كتبا من جيب وليه يا للفرحه!، يقوم بطبع الوثائق اللازمة من جيب وليه يا للفرحة.!.

وليه- الذي يجب أن تكون ولايته عليه قد انتهت- كان ساذجا ، كان يظن أنه فقط يقرض ابنه وسيأتي اليوم الذي سيرد له بالحسنى وزيادة، كان فرحا ببذله وعطائه وإن كان أحوج إلى ذلك. وتزداد دقات قلبه فرحا كلما استدعي ولده من بين المئات لاجتياز مباراة سلك التعليم العالي وإن كان مطلعا على حقيقة هذه المباريات الشكلية، لكن الأمل الوهمي كان أكبر من مخاوفه الواقعية، فيحبط المرة تلو المرة لكن لم ينكسر ولم يقنط ،لا يزال طامعا في رحمة الله .

ذهب الابن يوما ليطلع على أحوال الفصل الجامعي الموالي فصدمه إعلان يقول ( لقد ثم الاستغناء عن الخدمات المجانية لكل الأساتذة الذين يعملون بصفة عرضية) كان وقع الصدمة قويا مرت سنوات مع عمره لم يندم عليها أبدا في سبيل العلم، ولكن تركت أثرا عميقا في نفسه. ما الحل ؟ وما العمل ؟ هذا ما لم يحسب له حسابا حتى العمل المجاني غير مقبول في بلدنا العزيز.

سمع بمباراة سوف تجري قريبا ،راح ليقدم ملفه لكن المباراة مفتوحة فقط في وجه من سجل اسمه في القرص المدمج في الوزارة الأولى. اكتشف مؤخرا أنه غير معترف به بعد باعتباره إطارا وطنيا وإن كان قد سجل اسمه في وزارة التشغيل.

ما السبيل للاعتراف به؟ ذهب للوزارة الأولى ـ عفوا أوقف على بعد كلمترات ، ذهب إلى الولاية، قيل له إذا أردت أن تسجل اسمك في القرص يجب أن تكون معتصما.

ذهب مطأطأ رأسه لينضم لإحدى المجموعات فكانت مفاجئة غير متوقعة لقد سد باب التسجيل، رضي بالهم والهم لم يرض به كما يقال. بينه وبين نفسه أمر فيه خير، فهو لم يقتنع بعد بهذا الحل. كيف يكون سببا في الزيادة في تشويه صورة بلده، أليس لأطره وأدمغته إلا أن تهاجر وتغادر البلاد بحثا عن العيش الكريم فيأخذ خيرها غيرها، أو تعيش مشردة مهددة بالأمن الوطني يائسة بائسة . ألا تستحق بعد سنوات طويلة من الكد والجد والسهر أن تحظى بعمل شريف حتى تمر من هذه المرحلة القاتلة للطموح والعزم على العطاء وخدمة البلد الذي خدمه، أو لربما تحاول البلاد أن تنمي فيهم روح العمل النضالي والسياسي بعد أن اشتكت من عزوف الشباب عن المشاركة السياسية؟ ! !

حالة لم يرضها للأرض التي نبت في أحضانها وصرفت عليه الملايين حتى نال مبتغاه. أبدا لم ينس هذا وإن كانت هي قد تبرأت منه.

هذا بينه وبين نفسه لكن بينه وبين وليه ومحيطه لقد بلغ السيل الزبا ،ماله والدراسة لو أنه تعلم صنعة لأغنته، ولو أنه اكتفى بتعلم كتابة اسمه وبعض الحساب يساعده على جمع ماله وصرفه.

راح يبحث عن عمل يصرف فيه علمه و إن لم تعترف به أمه التي علمته، ذهب للقطاع الخاص وبحكم كفاءته وتجربته سرعان ما فتحت له إحدى المؤسسات بابها، لكن بأجر زهيد جدا، قبل ليسد أفواه المثرثرين وما إن مرض يوما أو يومين لم يجد له مكانا و لا وظيفة.

وما إن سمع بمجموعة جديدة حتى أسرع للانضمام إليها كي لا يفوته قطار التوظيف تاركا وراءه كل قناعاته وآماله وآدابه وعلومه عسى يأتي يوما ينجلي فيه ضرره، ويذهب عنه همه وغمه ويحصل على وظيفة ترد له كرامته بين أهله وذويه وتنشأ بصيص أمل لمن يلحقون به في الدرب، فلا يغادرون مدارسهم ولا يهدرون أوقاتهم الدراسية، ولا يفكرون في قوارب الموت ولا سفن النجاة ليعيشوا في بلدان تقدر الكفاءات وتعلي شأن العقول.

نسيت أن أذكر أن صاحبكم هذا كان أسعد حظا ممن تورط في زيجة فأصبح مسؤولا عن صاحبة وأبناء فضلا عن الآباء.



خ م عن الرابطة الوطنية للأطر العليا المعطلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق