26‏/11‏/2010

بقلم عبد الله أحواش

بعد زهاء 5 قرون من الإستنزاف للموارد و الإسترقاق للبشر من طرف الإمبراطوريات الإستعمارية الأوربية القديمة في البلاد الخاضعة لنفودها، هاهو الواقع الحالي و مايجري على ساحة الأحدات العالمية يأتي ليؤكد على أن أحفاد اوروبا القديمة لم يرق لهم بعد التخلي عن إرث الأباء و الأجداد. فرغم مرور كل هذا الوقت الذي قطعت فيه الإنسانية أشواطا كبيرة في اتجاه ترسيخ فلسفة حقوق الإنسان و حق الشعوب في تقرير مصيرها ونبد كل ما من شأنه أن يلغي التعدد الحضاري و الثقافي، مازالت الدول القوية صناعيا و على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بإيعاز من اللوبيات المتنفدة و المحتكرة للثروة و الموجهة للقرار السياسي تتعامل مع العالم و كأنه من ممتلكاتها التي يحق لها التصرف فيه على هواها.

 فبينما اعتمد الإستعمار القديم على أساليب غاية في الوحشية في إفريقيا و آسيا و أمريكا مستعملا في ذلك مختلف أنواع العنف المادي الممنهج لإخضاع الشعوب و ترويضها و إجهاض كل أشكال المقاومة لديها بعد رفضها لوصاية الأجنبي المستعمر، هاهو الإستعمار الجديد الذي يتجسد في الهيمنة الأمريكية و حلفاءها على العالم يتم تتبيته باللجوء الى نفس الأساليب و لاكن ببراعة قد يبدو معها من الصعب إكتشاف وجهه الحقيقي. فقد أضحت أدلوجة نشر الديمقراطية و حماية حقوق الإنسان من الدرائع التي يعتمد عليها حاليا منظروا الإستعمار الجديد لتنفيد مخططاتهم تيمنا منهم بماكان المستعمر القديم يدعيه لإضفاء صبغة أخلاقية على جرائمه وكدا لإستمالة العواطف و ذلك من قبيل القول بأن هدفه هو مساعدة السكان المحليين للخروج من أسلوب الحياة الهمجية إلى بحبوحة الحضارة و التمدن.


فمع صعوبة النمط التقليدي للتدخلات المباشرة في شؤون الدول في ظل التطور الحاصل في القوانين و الأعراف الدولية المنظمة للعلاقات بين الدول، إستطاعت عبقرية اللوبيات الصناعية و العسكرية المتبنية لأطروحة الإستعمارالقديم في نسخته المنقحة المسمات بالسوق الحرة أن تتأقلم مع هذا المعطى الدولي. فقد طورت لأجل ذلك آليات جديدة تمكنها من بسط سيطرتها على بلدان الجنوب الغنية بالثروات و التي لم تكن لتتحقق إلا بإختطاف القرار السياسي و الإستحواد على الإعلام في دول الشمال المتمتعة بقدر مهم من الحرية و الديمقراطية كوسيلة لدرء ردود أفعال شعبية قد تجهض هذه الهيمنة و تضع بذلك حدا لجشع أصحاب مثل هذه الأطروحات المدافعة عن قيم السوق الحرة التي تستبيح كل شئ بإسم المردودية و الفعالية الاقتصادية و التنافسية و الإنتاجية، وكلها مفاهيم لاتعبر إلا على إرادة هوجاء لتنمية الرأس المال المادي دون أي اعتبارات أخرى مرتبطة بالإنسان و البيئة و الثقافة.  

أما نوع الآليات الحديثة المتبعة، بعد أن تعدرت التدخلات العسكرية السافرة، فهي تتمثل في صندوق النقد الدولي و البنك الدولي اللذين أتبتا نجاعتهما في إخضاع شعوب النصف الجنوبي للكرة الارضية لإرادة الأقوياء في الشمال. ولتفعيل  أسلوب إشتغال هذه الآليات كان لابد من تمهيد الأرضية الضرورية لنسق جديد من العلاقات الدولية يصبح معها العالم التالث تابع للقوى المهيمنة و بدون استقلالية فعلية. ولتحقيق هذا المشروع ثم إتباع إستراتيجية لا أخلاقية لإجهاض كل محاولات شعوب الجنوب لإرساء نظم ديمقراطية وطنية تريد تنمية اجتماعية حقيقية و ترفض التبعية للخارج و رهن مقدرات بلدانها للإستغلال الأجنبي. و من أبشع ما مورس من الوسائل اللاخلاقية في هدا الصدد هناك الإغتيالات و تفجير الحروب الأهلية، عن طريق دعم جماعات من المرتزقة وتجار الدم لنشر الإرهاب بين الشعوب، و تنفيد الإنقلابات العسكرية مع دعمها إعلاميا و مخابراتيا و كذا اللجوء الى الحصار الإقتصادي قصد تجويع الشعوب لدفعها، تحت ضغط الفقر و الجوع، للتمرد على الحكومات الوطنية المحاصرة.

 و ماحدت في أمريكا اللاتينية و آسيا و إفريقيا خلال النصف التاني من القرن الماضي يؤكد مدى صدقية هذه الاستراتيجية. لقد اغتيل ألليندي رئيس الشيلي الشرعي 1973 و طوماس سانكرا الرئيس الشرعي لبوركينا فاصو1987، كما تم الترحيب في الغرب بإنقلاب سوهارتو في اندونيسيا 1965 وبحفاوة مماثلة بإنقلاب ماركوس في الفلبين 1972. وبنفس المنوال قامت الولايات المتحدة بدعم نشاط جماعة الكونترا الإرهابية الموجه ضد حكومة الساندينيستا الشرعية في نيكاراكوا، كما إلتجات الى التدخل مباشرة في ڨيتنام لإستأصال حركة "الڨيت منه" الوطنية التي يتزعمها "هوشي منه" و اضطرت الى غزو بنما سنة 1989 بعد حصار اقتصادي أدى الى الإطاحة بنظام مانويل نوريجا الذي بدأ يتجه بالبلد نحو الإستقلال الحقيقي بعد أن كان الصديق الوفي و الخادم المطيع لأوامر العم سام، و نفس سيناريو بنما يمكن أن ينطبق على عراق صدام حسين الذي مازال ينزف من جراء الغزو الامريكي الى حدود اليوم. هذا غيض من فيض الجرائم المقترفة، فبالنسبة للامريكان لايهم الثمن الباهض من حيت التكلفة البشرية التي بلغت 700 الف قتيل أثناء انقلاب سوهارتو فقط و التي قاربت نحو مليون  قتيل و مفقود و ما يناهز 4 ملايين نازح ومشرد في حرب العراق التي مازالت رحاها تحصد مزيدا من الضحايا. فكل ما يهمهم هو استأصال داء الوطنية والإستقلال مع تلقيح كل من يحتمل اصابتهم بالعدوى. هذه هي الخطوط الإستراتيجية الرئيسئة لسياسة الولايات المتحدة إزاء دول العالم التالث على حد تعبير المفكر الامريكي نعوم تشومسكي في كتابه "مالذي يريده حقيقة العم سام".

وبعد القضاء على كل التجارب الديمقراطية التي ظهرت بوادرها في الجنوب في النصف التاني للقرن ال20، استولت على السلطة في هده البلاد طغم عسكرية قمعية بمباركة الغرب و بالخصوص الولايات المتحدة. و اثناء حكم العسكر، بأوامر من واشنطن، حدتث كوارت اقتصادية من جراء النهب البشع للثروات الوطنية و سرقة الأموال العامة و ترحيلها الى البنوك الغربية مما أدى الى تقسيم المجتمع الى أقلية غنية و أغلبية تعاني الفقر المدقع و الحرمان الشديد. وقد دفع هذا الإفلاس بالجنرالات الى اللجوء الى الاقتراض من البنك الدولي الذي يصر على استتمار الأموال في مشاريع غير منتجة ولا تصب بالضرورة في مصلحة الشعب المنهك بل في صالح المسستتمر الاجنبي كالبنيات التحتية الضرورية لتسهيل عملية استغلال الثروات و الرفع من وثيرتها. فعوض الاستتمار في التعليم و الصحة و في تطوير الزراعة المعاشية لحماية الأمن الغدائي للبلد و محاربة الأمية ووضع أسس متينة لإقتصاد قوي نجد الأموال قد صرفت في بناء السكك الحديدة و المطارات و في تعبيد الطرق و إنشاء الموانئ للربط بين مناطق إستغلال الثروة و أماكن تصريفها في الخارج. فقد جاء في تقرير للامين العام للامم المتحدة كوفي عنان ان نسبة المساعدات الخارجية المخصصة للخدمات الاجتماعية الاساسية، بالتحديد الصحة والتعليم،  خلال العقد الاخير من القرن الماضي لم تتجاوز 10% من مجمل هده المساعدات. بالاضافة الى هذا تبقى الإعتبارات الجيوسياسية هي الموجه الرئيسي للمساعدات حيت غالبا ما تكون في خدمة نظم سلطوية قمعية على حد تعبير أحد الرموز العالمية لرأسمالية المضاربات المالية  جورج سوروس في كتابه "خرافة التفوق الأمريكي".

و كنتيجة لإنهيار أسعار المواد الأولية في السوق العالمية و قعت البلدان المدينة في فخ المديونية مع بداية تمانينيات القرن ال20 حيت تعدر عليها مواصلة أداء مستحقاتها اتجاه البنك الدولي، تم وجدت نفسها مضطرة للإلتجاء الى صندوق النقد الدولي لإعادة جدولة ديونها. و لم تتم هذه الجدولة إلا مقابل شروط تصب كلها في اتجاه تحرير الإقتصاد حتى يصبح قابل لإختراقات رؤوس الأموال الأجنبية و خاضع لها. و بهذه الإستراتيجية تمكن الإستعمار الجديد من إحكام قبضته على مقدرات و خيرات بلدان الجنوب بعد أن أرغمت الحكومات عن ترك آليات السوق تتحكم في الإقتصاد و توجهه. و من عواقب هذه الهيمنة هناك إتساع الهوة بين الشمال و الجنوب حيت نجد أن أكثر من 80%  من ثروات العالم يستحود عليها أقل من 20% من سكانه المتمركزين في الشمال مما نتج عنه وقوع مايقرب من نصف سكان العالم في خانة الفقر من بينها 1.3 مليار إنسان يعيش تحت خط الفقر بأقل من دولار في اليوم لكل فرد، و قد أشارت الإحصائيات الى أن حصة العالم الإسلامي من عدد الفقراء هي الأكبر في العالم حيت أن ثلت ممن يعيشون تحت مستوى الفقر هم من المسلمين. هذا وقد وصلت التكلفة البشرية لهذا الخلل في توزيع الثروة الى حوالي 40000 شخص يفقد الحياة يوميا من جراء الأمراض و سوء التغدية و الحروب الأهلية و الكوارت الطبيعية. أما ظاهرة البطالة في صفوف الشباب في العالم العربي فقد أظهر تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية لسنة 2008 أن أكثر من 50% ممن هم بدون عمل هم من فئة الشباب، أما معدل العاطلين في صفوف الحاصلين على شهادات التعليم العالي فقد بلغت أقصاها بنسبة 26.8%  في المغرب كما جاء في التقرير العربي الثاني حول الشغل و البطالة. 

وعلى ضوء ماسبق، و بإعتبارنا نحن المعطلين من ضحايا سياسة الأقوياء المهيمنين دوليا التي لاترى في بلدان الجنوب إلا مصدرا لحاجيات إنسان الشمال، فحري بنا ألا نقزم قضيتنا الى مجرد المطالبة بشغل يكفي لسد الرمق و قد لايوفر الحد الأدنى من العيش الكريم إذا استمر الوضع الإجتماعي في التردي بنفس الوثيرة الحالية في المغرب، حيت جل المؤشرات تؤكد دلك، فأسعار السلع في تزايد مستمر و مجانية الخدمات الإجتماعية تتلاشى بإستمرار و صندوق المقاصة لدعم المواد الأساسية مهدد بالإلغاء ناهيك عن مظاهر الفساد و هدر الأموال العامة التي أزكمت رائحتها الأنوف. فهل بالشغل وحده تصان الكرامة ؟ أم هل بالخبز وحده يحيى الإنسان ؟
إن جوهر الكرامة و كنه الحياة يكمنان معا في الحرية وليس في الحصول عن لقمة رغيف و لا عن أجرة شهرية أو بضع فتات يقع من موائد الأغنياء. و أي حرية لفرد منزو على نفسه، منطو على أنانيته، لايرى أبعد من أنفه وبعيدا عن هموم بني جنسه ؟! لدى فالسير على درب الحرية يقتضي منا أولا فهم ميكانيزمات اشتغال النظام عفوا اللانظام العالمي الجديد للوقوف على الأسباب العميقة التي أدت بنا الى الوقوع في مأزق العطالة، وثانيا الإنخراط في نضال حضاري مستمر وبشراكة مع كل الفاعلين المحليين و الدوليين المدافعين عن عالم أكثر عدالة تسود فيه قيم المواطنة و حقوق الإنسان و يتم فيه إحترام التعدد الثقافي و الحضاري و ترسيخ مبدأ التضامن بين الأفراد و الشعوب. إنه عالم مختلف تماما مع ما تقدمه الإديولوجية الداروينية الليبرالية التي تعتبر العالم مجرد مسرحا للصراع بين الأمم على قاعدة التنافس وليس التعاون يكون فيه البقاء و الغلبة للأقوى. إن فهم خبايا اللعبة و النضال من أجل تغييرها نحو الأفضل عن طريق نشر وعي جديد يؤمن بأن الإنسان إذا أراد استطاع، لهو أقوى ما يزعج أعتى الأنظمة تسلطا و جبروتا، لأنه يقاوم بلاهوادة ثقافة الخنوع و الصمت و الخوف التي تروج لها هذه الأنظمة لطمس عقول الجماهير و لتمييع الإحساس و قتل روح المسؤولية لديها. فبهذا الوعي الجديد الداعي الى فكر التحرر ضد فكر الهيمنة و الاستغلال و الرافض لعقلية القطيع و شخصية الدهماء يكون إنبثاق كوجيطو من نوع آخر "أنا أناضل إذن أنا موجود".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق